الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009

حداثة داروينية أم حداثة إنسانية؟

رحم الله المفكر الكبير عبدالوهاب المسيري، وأسكنه فسيح جناته ..
هذا آخر ما كتـب ..حداثة داروينية أم حداثة إنسانية؟
مقال أََرسله للجزيره نت قبل إنتقاله للدار الآخره بساعات ..
إقرأوه وإعقلوا كلماته، ستتعلموا ..
كلمة “الحداثة” لها جاذبية شديدة، مثل الخطاب الفلسفي المادي، وهو خطاب مريح؛ لأنه يتوجه إلى مسائل مباشرة ومحسوسة مثل الحواس الخمس، والرغبات والاحتياجات المادية وكيفية الوفاء بها، ويقدم إجابات سهلة وتفسيرات سريعة وإن كانت سطحية، فهذا النموذج يتحاشى تناول أي إشكاليات إنسانية عميقة مثل قضية المعنى والهوية والهدف.
ويمكن القول- بقدر من المزاح-: إن الفلسفة المادية تحول الإنسان إلى مثقف يمكنه أن يفتي في أي موضوع وبسرعة، فكل ما هو إنساني يمكن تفسيره باعتباره تعبيرًا عن دوافع اقتصادية أو دوافع جسدية (عصبية وجنسية) .
فالفلسفة المادية تتعامل مع الإنسان من خلال قانون الجاذبية، ومن السهل على الإنسان أن يسقط في الوحل على أن يصعد إلى النجوم أو حتى يتطلع إليها، فالسقوط في الوحل أسهل شيء؛ لأن قانون الجاذبية يساعد على ذلك. والفلسفة المادية تبسط الأمور فكريًا وإجرائيًا، وبالتالي لها جاذبية خاصة، تمامًا مثل الوثنيات القديمة حيث نجد أن لها عبادات سهلة، لأنك تجد إلهك أمامك تعبده، وتطلب منه طلبات مباشرة، وإن لم يعجبك أكلته كما كانوا يفعلون في الجاهلية، حيث كان الواحد منهم يعبد إلهًا من تمر فإذا جاع يومًا أكله .
والآلهة الوثنية مثل الفلسفة المادية، فهي آلهة لطيفة تتعامل مع قانون الجاذبية المباشر والقوانين الحسية، والحداثة الغربية تدور في نفس الإطار ومن هنا جاذبيتها الكبرى. وبالإضافة إلى ذلك، فقد حققت الحداثة الغربية إنجازات ضخمة للإنسان الغربي، ولكن ينبغي التنبه إلى أن جانبًا كبيرًا من هذه الإنجازات له علاقة بالنهب الإمبريالي .
غير أن هذه الحداثة المادية رغم جاذبيتها وإنجازاتها، إنما تصدر عن تأكيد زمنية ومكانية ومادية كل شيء، وإخضاع كل شيء- بما في ذلك الإنسان- لعمليات الترشيد العقلاني المادي في إطار معايير عقلانية صارمة.
ويُعد الترشيد في الإطار المادي جوهرَ التحديث، فهو يعني اختفاء الحدود بين الإنسان والأشياء، وإزاحة الإنسان من مركز الكون ونزع القداسة عنه تمامًا. وبدلاً من ثنائية الطبيعة-الإنسان، يظهر الإنسان الطبيعي الذي هو الإنسان الطبيعي-المادي، أي ذلك الإنسان الذي يُنظر إليه باعتباره جزءًا لا يتجزأ من المادة .
وثمة تنوعات عديدة على هذا الإنسان، من أهمها الإنسان الاقتصادي الذي يُعرّف في إطار دوافعه الاقتصادية، وهناك أيضًا الإنسان الجسماني، وهو أيضًا الإنسان الذي يُعرَّف في إطار وظائفه البيولوجية (غدده، معدته، أعضاؤه التناسلية).
وكما يقول رورتي فإن التحديث هو مشروع نزع الألوهية عن العالم (dedivinization project) وهو يعني ألا يعبد الإنسان شيئًا ولا حتى ذاته، ولا أن يجد في الكون أي شيء مقدَّس أو رباني أو حتى نصف رباني. ومن ثم، لا توجد مقدَّسات أو محرَّمات من أي نوع، فلا حاجة لتجاوز المعطى المادي (الزماني المكاني).
فالإنسان يوجد في عالمه المادي لا يتجاوزه، وهذا العالم هو مستقر كل القوانين التي يحتاج لمعرفتها. ثم يبيِّن لنا رورتي النتائج المنطقية لهذا الموقف بقوله: “إن الحضارة العلمانية الحديثة لن تكتفي باستبعاد فكرة القداسة أو بإعادة تفسيرها بشكل جذري، وإنما ستهاجم الذات الإنسانية نفسها كمصدر الحقيقة “.
فهي ستهاجم فكرة “تكريس الذات للحق (الحقيقة)” أو “تحقيق الحاجات العميقة للذات”، كما ستبيِّن أن مصدر المعنى ليس كلاً متجاوزًا وإنما هو الإنسان، والإنسان كائن حادث زمني متناهٍ، أي أنه ليس مصدرًا جيدًا للحقيقة .
ومن جهة أخرى، فإن الحداثة في جوهرها هي إيمان عقلاني مادي بالتقدم وإيمان بالمستقبل الذي سيتحقق فيه التقدم، الذي أصبح المعيار الواحد والوحيد. ولكن التقدم مجرد حركة مستمرة لا نهاية لها، وهو ما يعني سقوط الثبات.
وانطلاقًا من أرضيتنا الحديثة العقلانية المادية، فإن العقل يقوم بعملية نقدية صارمة لمسلماتنا العقلية وموروثاتنا الثقافية ولن نقبل من التاريخ إلا ما يتفق مع نماذجنا العقلية والمادية، والرؤية الحداثية المادية تُعرِّف “الزمان” و”المكان” و”الآن وهنا” كمقولات مجردة، كصيرورة لا معنى لها، كعلامة على ماديتنا، ولكنها لا تقبل التاريخ أو الذات ولا تعرفهما لأنهما يحتويان مخزونًا لقيم تغاير ما في واقعنا المادي وما في نماذجنا العقلانية المادية وتتحداها .
وعلى هذا، فإن التحديث- بالنسبة لرورتي وآخرين- هو نسيان نشط للتاريخ والذات، أي أنه بمثابة تجريد للإنسان من ذاكرته التاريخية بعد أن جُرد من مكانته كمركز للكون .
وهكذا، تَمّ ضرب الذات الإنسانية، ولم يبق من الإنسان شيء، لا مقدرته على الإدراك المبدع للواقع ولا الذاكرة التاريخية .
ولذا، لا غرو أن المشروع التحديثي قد حوَّل الإنسان من غاية إلى وسيلة. وهناك كثير من آليات التحديث، مثل الدولة المركزية أو السوق القومية أو الترشيد، تستقل عن الأهداف الإنسانية، مثل إشباع حاجات الإنسان وتحقيق الكفاية والأمن له، وما إلى ذلك، لتصبح غايات وتهيمن على الإنسان وعليه أن يذعن لها .
وقد تنبّه بعض المفكرين، منذ بدايات المشروع التحديثي، إلى الطابع التفكيكي المظلم والمعادي للإنسان في هذا المشروع، وأشار عدد منهم إلى دلالات هذا الهجوم الشرس على كلٍّ من الذات الثابتة المتماسكة والموضوع الثابت المتماسك، بل وعلى أية محاولة للوصول إلى كليات ثابتة متجاوزة .
فعلى سبيل المثال، ذهب هوبز إلى القول: إن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان وإن الواقع هو حلبة صراع للجميع ضد الجميع، أي أنه اكتشف منذ البداية جرثومة التفكيك داخل المشروع التحديثي. وقد تبعه كثير من الفلاسفة الماديين الذين يفككون إما الذات أو الموضوع أو كليهما .
فهناك إسبينوزا والفلاسفة الماديون في فرنسا، والذين يفككون الذات الإنسانية تماماً، وهناك الفلاسفة التجريبيون والمثاليون (هيوم وبركلي) الذين يفككون الموضوع، وهناك بنتام الذي خلص إلى أنه لا توجد مطلقات أخلاقية وأن سلوكنا الأخلاقي يمكن تفسيره مادياً في إطار المنفعة واللذة، ثم داروين الذي رأى أن العالم في حالة حركة وتطور وصراع وأن عالم الإنسان هو الآخر عالم حركة وصراع، وماركس الذي قال: إنه لا ثبات إلا لقوانين الحركة وأنه يمكن ردّ وعي الإنسان إلى الواقع المادي وإلى العنصر الاقتصادي على وجه التحديد، وفرويد الذي قال: إن إدراكنا للواقع يحكمه لاوعيُنا وأن لاوعيَنا تحكمه قوى مظلمة مثل الجنس، والذي ذهب أيضًا إلى أننا لا ندرك الحقيقة فما ندركه هو ما يتراءى لنا أنه الحقيقة، وهناك يونغ الذي قال: إن لاوعيَنا هو لا وعيٌ جمعي .
ورغم تباين هؤلاء المفكرين في منطلقاتهم وتوجهاتهم، فإن ثمة اتفاقاً بينهم على أن الإنسان ليس سوى مجموعة من الدوافع المادية والاقتصادية والجنسية، ومن ثم لا يختلف في سلوكه عن سلوك أي حيوان أعجم، وعلى أن إدراك الإنسان للواقع ليس عقلانياً وإنما تحكمه مصالحه الاقتصادية وأهواؤه الجسمية. كما أنهم يتفقون في رفض فكرة المطلق المعرفي والأخلاقي، إذ لا ثبات في الطبيعة أو المجتمع أو الذات الإنسانية، وليس هناك إلا التغير المستمر والصراع الدائم، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى اختفاء كل من الطبيعة الإنسانية والطبيعية المادية .
وفي المقابل، راح كثير من المفكرين يسعون إلى تجاوز مشاكل الحداثة الداروينية وطرح أفكار وتصورات بديلة، وهذه هي وظيفة المفكر، فهو يحاول أن يستقرئ الماضي ويرصد الحاضر ويرسم صورة للمستقبل ثم ينتظر .
وما يحدث هو أن التطور التاريخي يفرز قوى اجتماعية تحمل هذه الفكرة تماماً كما حدث في الثورة الفرنسية، إذ كان فولتير والموسوعيون يكتبون وينشرون أفكارهم إلى أن أتت القوى الاجتماعية الملائمة وحملت هذه الأفكار فاندلعت الثورة، لأنه إذا ظهرت هذه القوى دون وجود فكر فلن تندلع ثورة بناءة بل ستعم الفوضى .
المفكر إذاً، هو الذي يقرأ الماضي والحاضر والمستقبل لأن هذه هي وظيفته، وقد أوكل له المجتمع هذه الوظيفة من خلال تقسيم العمل. أما الجماهير، فهي بحكم وضعها تعيش اللحظة. وقد يعترض البعض على ذلك بالقول إن هذه فكرة نخبوية، والرد على هذا القول بسيط للغاية، فهي كذلك فعلاً .
فعبر التاريخ لا بد أن تكون هناك نخبة، والقضية هي كيف تكون هذه النخبة على علاقة بنبض التاريخ ونبض الواقع وبمشاكل الجماهير، فتبدع فكراً قادراً على استيعاب حركة المجتمع وحركة الواقع والتعبير عنها بطريقة إنسانية عادلة، وتحولها إلى منظومة فكرية يمكن تطبيقها في الواقع .
ولننتقل الآن إلى فكرة الحداثة البديلة.. لقد أصبح من الضروري تطوير منظومة تحديث إنسانية إسلامية، منظومة هدفها ليس التقدم المستمر وبلا نهاية وتصاعد معدلات الاستهلاك ولا تقوم على أساس ثورة التطلعات المتزايدة، وإنما التوازن مع الذات ومع الطبيعة وتحقيق العدالة الاجتماعية ..
منظومة يطورها عقل مسلم متوازن مع ذاته ومع الطبيعة، ولذلك فهو غير نزاع للغزو والسلب.. منظومة توازن بين الإنتاجية وقيم العدل، وتوائم بين الحقوق الفردية وحقوق المجتمع.. حداثة تجعل الإنسان وتحقيق إمكانياته هي المركز، تركز على الإنسان من حيث هو إنسان، وليس من حيث هو كائن اقتصادي أو جسماني أو طبيعي .
إن المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتقنية ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط.. حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود، تعيش الحاضر دون أن تنكر التراث.. حداثة تحترم التعاقد ولا تنسى التراحم .
ومن ثم، يجب أن نطرح رؤية للمجتمع تحل المشاكل بشكل جذري للجميع وتحدد مكان أعضاء الجماعات الدينية والإثنية داخل المنظومة الجديدة، وأن حقوقهم السياسية والاجتماعية والدينية مصونة (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) انطلاقاً من تطبيق الشريعة الإسلامية (وليس مجرد التسامح الإنساني) .
بل إنه يمكن البحث عن مناطق اتفاق كثيرة مع العلمانيين القوميين العرب، فهم ليسوا علمانيين شاملين مثل العلمانيين في الغرب، فالعلمانيون عندنا ما زالوا يؤمنون بالقيم المطلقة ولا يؤمنون بأن كل شيء نسبي ومباح، كما تهمهم الخصوصية القومية .
وأعتقد أن هذه كلها نقاط اتفاق يمكن أن نتفق عليها جميعاً، ومن خلال هذا الخطاب الإسلامي القائد يمكن حشد طاقات الجماهير الإسلامية وغير الإسلامية لإعادة بناء الأمة. ولنبدأ مشروعاً تحديثياً جديداً لا يعادي القيمة المطلقة ويحتفظ بمركزية الإنسان في الكون وهي مركزية يستحيل الاحتفاظ بها في إطار مادي، فهي مركزية مستمدة من قداسة الإنسان، وقداسته مستمدة من وجود إله مفارق للطبيعة والتاريخ. أما في داخل النسق المادي فلا مركزية إلا للمادة !
إن الحداثة الإنسانية البديلة توازن بين التعاقد والتراحم: أن ننشئ مجتمعاً مبنياً على التعاقد دون أن ننسى التراحم، أن نبني مجتمعاً له أساس مادي لكنه لا ينسى الروح، يحترم الطبيعة ولا ينسى الإنسان. ويتمثل جوهر الحداثة التراحمية الإنسانية في أن الهدف ليس التصاعد في معدلات الاستهلاك، وليس تحقيق اللذة، وإنما التراحم والتوازن مع الطبيعة ومع الذات .
وأنا -كمسلم- أعتقد أنه لا يمكن تحقيق هذا إلا في إطار إيماني.. إن الإنسان لا يمكنه أن يتجاوز الرغبة في الاستهلاك الشره والبحث الدائم والدائب إلا من خلال الإيمان بشيء أكبر منه. ولعل المنظومة العلمانية قد نجحت حتى عهد قريب في تحقيق شيء من هذا القبيل، من خلال الإيمان بقيم مثل الوطن والاستعمار والعنصرية، لكن كل ذلك تساقط في عالم ما بعد الحداثة وأصبح الإنسان في عالم بلا مركز، وانتشرت الفوضى المعرفية والأخلاقية كما نرى الآن في الغرب .
ولا أدعي هنا أنني أُقدم حلولاً جامعة مانعة، فغاية ما أدعو إليه هو الاجتهاد، وهناك من هم أكثر تخصصاً وخبرة مني يمكنهم أن يطرحوا مفهوماً اقتصادياً جديداً قائماً على فكرة “حد الكفاية”، بحيث نتفق على الحد الأدنى المادي المطلوب للإنسان (الغذاء، المسكن، الملبس..إلخ) ونحاول أن نحقق هذا لكل البشر بدلاً من فكرة النمو المستمر وتصاعد معدلات الاستهلاك التي تؤدي إلى استقطاب طبقي شديد، وإلى نهم لا ينتهي داخل المجتمع، وإلى الأزمة البيئية ونفاد المصادر الطبيعية على مستوى العالم، فهذه المصادر لا يمكن أن تكفي لمواكبة مثل هذا التصعيد المستمر للنمو والاستهلاك .
إن الهدف من الحداثة الإنسانية هو تحقيق التناغم والعدل والسلام الاجتماعي. ويمكن للمتخصصين أن يحولوا ذلك إلى تصورات تفصيلية، وهكذا تولد الأفكار الجديدة .
وأنا مؤمن تمام الإيمان أن مثل هذه الرؤية ممكنة التحقيق، وأنه في الآونة الأخيرة بدأ يظهر الكثيرون في الغرب والشرق ممن يؤمنون بأن الحداثة الداروينية قد أدخلتنا جميعاً في طريق مسدود، ولا بد من البحث عن طريق جديد، وهذه هي بداية الحكمة، والله أعلم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق